حوار التناظر مع الأديب الشاعر محمود درويش
مشهد حالة حصار : صمت من أجل غزة !!
د.مازن حمدونه
أخي .. أستاذنا الكبير محمود درويش ...
غزة المكلومة محيط جغرافي يحيط بها صمت القبور .. شوارعها تزف كل يوم عرس ، وغالبا تجوب الشوارع أعراس الشهداء ، فلم البكاء على غزة إذا لطالما زينت شوارعها الأفراح وبهجة النصر ؟
هي جزيرة ببحر لا يلتف حولها ، ولكنه بحر تنتهك حرمة أمواجه .. تجوب شواطئه .. تجتاح أمواجه العاتية الغاضبة مدمرات .. أساطيل عدو باق على عهد مع الشيطان لأن يستبيح الدم .. ان يغتصب السكينة .. ان يخطف حتى البسمة عن وجوه أطفاالنا . ألا أذكرك بمحمد الدرة الذي ذهب في طريقه لشراء دراجة هوائية فهوت رصاصات الحقد عليه تخترق الرئة اليسرى إلى ان استسلمت رئته اليمنى فهوى .. وهوى حتى توقفت معه نبضات الإنسانية . أيا اعز الناس لم تسطر أبيات الشعر بعد في مشهد الطفلة الرضيعة كإيمان حجو حين انكفأت على صدر أمها تبحث عن حليب الأمن الدافئ وتحسست ولمست في عيون أمها رعبا .. في اختباء وهروب من الموت تبحث عن ملجأ امن .. هي حدثت أمها وهي لا تعرف لغة الكلام ... قالت لا تقلقي سأتناول وجبة من الحليب الدافئ من صدرك وسأخلد للنوم .. ولكن سيدي .. أبا الظالم ان يتركها تهنأ بنعيم الحياة فتربص بها وامتشق ظهرها بقذيفة نالت منه فسقطت بلا حراك .. فتح نافذة في ظهرها الناعم الطري الرقيق دون إذن من كل الأديان السماوية .. وعبده الأوثان وقفوا مذهولين من عصابات الموت قالوا انه جيش الدفاع الإسرائيلي .. يدافع دفاعا مستميتا فيغتال الطفل والحجر و اغتالوا حتى الشجر .
لم تطال أبيات شعرك الطفلة هدى غالية رمز الحزن الفلسطيني .. حين قررت فسحة مع والدها وعائلتها على شاطئ بحر غزة .. هللت فرحة بمكافأة نجاحها فقرر والدها ان تزور شاطئ بحر غزة في ليلة الصيف .. قررت أن تتخلص من دوى الانفجاريات في جباليا وان تغير سنفونية الموت في بيت لاهيا .. ان تتخلص من دوى طائرات الاستطلاع اللعينة .. قررت هذه المرة ان تغلق بوابة الحزن لتفرح وان تحتفل بفرحة واحدة .. فاختارت من اعز الناس على قلبها .. ذاك الأب الحنون ان يأخذها إلى شاطئ بحر غزة .. وهناك قرر الأب ان يرقص أطفاله بين أمواج بحر غزة .. فطارت هدى غالية تهلل فتحت ذراعيها للبحر ترقص فرحة به .. جلس والدها بين أمواج رمال الشاطئ .. تمدد على كومة من الرمال الأبيض الناعم .. أشعل سيجارته سعيدا ببهجة طفلته الغالية .. تحركت أساطيل اللعنة حدقت بمناظيرها التي تكتشف خلايا الأسماك المتبعثرة تحت الصخور .. لتقرر ان تغتال حلم وطمأنينة كل أطفال غزة .. رسالة إنذار إلى غزة .. إلى أطفالها .. نسائها .. شيوخها ..كلكم تحت خط النار ، لا فرحة لكم بعد اليوم .. سنحول حياتكم إلى جحيم ، سندعكم ترحلون إلى الدار الآخرة بقذيفة نحن نقرر ان نطلقها بكبسة أزرار المدفع .. اختلطت دماء الأب تطاير اللحم .. أطبق الصمت .. أذهلت هدى مسامعها صوت قذيفة هي قررت أن لا تسمعها .. هذه المرة استهدفت والدها المسن .. الضعيف ، على شاطئ بحر غزة .. صرخت .. سمع العالم صوتها .. عذبت كل القلوب المتيبسة والجائرة إلا قلوب بني صهيون فهم قرروا قتل أحلام أطفالنا .
بنى صهيون مفتونون بمغازلة الزمن .. مبتهجون حين كانوا يقررون النصر في كل مرة .. إلا أنهم قرروا الضحك والرقص ولعب كرة القدم في بيروت .. فبكوا .. صرخوا .. تطايرت جنازير دباباتهم في جنوب لبنان وأصبح المشهد كحظيرة خنازير طهرتها سواعد المقاومة ..دخلت جحافل جيوشهم مرتعشة وهي تعلم إنها في رحلة الموت .. فقرروا ان لا يحاربوا أحدا .. فحاربتهم قذائف المقاومة ولم يكن المشهد مكتمل لان المقاوم مجهول الإقامة .. فقالوا من قتل الضابط قال : لا أحدا ..!!!
في غزة المحاصرة بين بوابة العدو الرابض خلف الجدار الإسمنتية ... والسماء مغطاة بطائرات تجوب سمائها دون طيار .. والبحر أساطيل حربية هاربة تخشى النيل منها .. فأصبحت جزيرة تنفجر في أي لحظة جنودها ينتظرون جحافل دباباتهم .. ولم يحضروا .. تنتظر قرار مواجهة كان العدو طوال العقود يبهيجا سعيدا وهو يجوب الشوارع العربية .. يحتسي علب النبيذ أو البيرة وغالبا يكون منتصرا إلا في تموز فقد احتسى الدم والحسرة وتلبدت غيومه بالهم والكرب والهلع .. اسألوا ذاك الجيش المتبجح ان شئتم هل يرغب بفسحة في شوارع غزة؟
الزمن في غزة يختلف عن أزمان كل العواصم العربية واللاعربية .. الزمن في غزة كله كبد بين نار الاغتيال والمواجهة والمقاومة .. لولا أن دنسه بعض المتهورين من بني جلدتنا لكان دون ذلك زمنا لا تقارعه كل الأزمان .
الزمن في غزة يستحق ان تسطره مياه الذهب على صفحات التاريخ لولا عجرفة المهووسين من كل الأخر . الزمن في غزة قتلته سواعد أبناءه في لحظة خطرفة .. في لحظة قررت أنها سيدة الموقف .. فانتحرت وداست بهاء النصر بعد الذلة .. الزمن يا سيدي كان في غزة كشعلة تضئ عتمة المقهورين والخائفين والمستسلمين حتى الأمس . الزمن يا سيدي في غزة كاد ان يكون مظلة تقينا من حر الشمس .. من الم الحسرة .. من وهيج الألم الداخلي بعد الهزيمة .. فلطخوا راية النصر بدم من لا ذنب لهم ولا هم طرفا في خلافات الايدولوجيا ولم يكونوا يوما في حسابات السياسة .
القيم في غزة تختلف عن كل القيم في معظم العواصم العربية . .. تختلف ولا مجال لان نفكر في هذا بعد عام 1967 .
في غزة قرروا ان نقاوم .. فقررنا أن تكون المقاومة منهجا .. ولها أدبيات وثقافة ...
ولكن في غفلة .. أصبحت المقاومة تصرخ ألما .. لأنها فقدت معانيها وأهدافها وقيمها بحفنة من المخبولين .. الذين صدروا فتاوى لا تعرفها كل الكتب المقدسة .
كل مشاريع بني صهيون تحطمت على صخرة الصمود التي كانت نواتها وحدة في المصير والهدف .. فلم تغرق غزة في البحر كما تمنوا .. ولم ترحل غزة إلى الصحراء .. ولكن غزة قررت ان تغتسل من عار هزائم كل الجيوش العربية ....
غزة التي هي طفلة مدللة بين كل العواصم العربية .. غزة التي خيراتها لا تغطى حصيرة أسرة فقيرة .. ولكنها حملت تاريخ أمه .. هي مدينة تمنح الحياة ، وتمنح الموت .. أطفالها لا يعرفون لغة الاستسلام .. شبابها مدرسة تعلم فنون القتال ومقارعة الجيوش وتفخيخ الأجساد وتحول الأرض إلى براكين ووهيج لهب وغضب .. هذه مشاهد غزة .. وشيخها يربون الأحفاد بعد شهادة الأبناء .. ترى هل في عاصمة عربية تزغرد النساء برحيل فلذات الأكباد !!
غزة تتربع على صدر الزمن وعلى مشاعل التاريخ .. تغتال كل جبان متربص .. لا تأتي أحدا ، ولكن من ينتظر ان تأتيه فلن تحضر غزة له أبدا .. من قرر الانتظار .. عليه أن يبكى على الأطلال .
المقاومة في غزة كانت قلعة من نور بهيج وحلة من نار ، وكانت نسيجا بين الجلد والعظم .. لن تكسره إلا خناجر من لم نكن نتوقع ان يكسروا عظامنا ، ان يبتروا مفاصل أطفالنا .. هزمنا الأعداء .. اثرنا الموت على الحياة من اجل حرية وطن .. لم تأخذنا الجرأة في استباحة دماء رفيق الدرب وأخ في معركة القتال .. ولكن السؤال مازال يحيرني كيف كان كل هذا يحدث في غزة .. كيف جسر الدم على الدم .. فقتل الأخ أخاه وابن العم ؟!!
لم أكن أتوقع ولو لحظة واحدة إني سأتلقى طعنة خنجر ممن حميته من قذائف الدبابات ، ومن قنصته برصاصتي قبل ان تغتال رفيق الدرب في معركة المصير المشترك .. أنا سلمته بندقيتي ورفضت قتله لأنني كنت اعلم أن من خلفي عدو لنا مشترك .. كيف جام بهم طيش فاق كل المحرمات .. كيف له ان يستبيح الدم .. كيف له أن يتلون .. يداهن ..أصبح الدين له وغيره دخيل على الدين والوطن .. هل المقاومة جمعتنا .. ام كانت فقط مرحلة حتى ينال مني كما العراق وإيران في نظر بيكر وكيسنجر ؟!
يا اخي .. تعال تجول الان في شوارع غزة وسترى .. انك تعيش في بلاد بلا أبواب ؛ بل موصدة بجدار إسمنتي، وببنادق كنت تقاتل فيها عدوك والآن أصبحت فوهتها موجهة إلى صدرك .. تكلم .. انتقد وعلق ، ستجد فرق محنطة من منطق العقل ومجنقلة تأخذك بعيدا .. تحول الجسد إلى مضرب في نادي ؛ أو مسجد .. إلى ألواح تخترقها مخارز آلات فرز العظم عن اللحم .. تحول لون الجلد إلى ألوان لم نشهدها من قبل ؛ إلا في معتقلات العدو ..وفي ختام الموت ترى جثة ملقاة على قارعة طريق .. والتعقيب اما تهمة جاهزة خارج القانون في بلدة تدعى أنها سيدة القانون .. أو لربما .. تعقيبا صغيرا من اكبر مسؤول لا علم لنا بذلك وسيجرى التحقيق ولن يكون بعده جواب والمشهد مازال يتكرر .