فسر خبراء العلوم السلوكية أن صدام حسين لم يطلق النار علي نفسه قبل سقوطه, لأنه في رأيهم أصبح إنسانا لا يحمل قضية ولم يعش من أجل هدف محدد, ولم يضع نهايته بيده لأنه لا يقر بأنه ظلم أحدا. بينما أشار الدكتور يحيي الرخاوي استشاري الطب النفسي بطب قصر العيني إلي أنه لا توجد قاعدة ثابتة تقول علي المستبد أن ينتحر.. وهو يري أن الخوف من المحاكمة أو عقاب الجماهير ليس كافيا لقرار الانتحار, والأرجح في رأيه أن صدام حسين فاقد البصيرة في الواقع منذ زمن طويل, كما فقد بصيرته بوضوح أيام حرب الكويت حيث اعتبر نفسه إلها وليس فقط مدعوما بالله, وبالتالي لم يضع الهزيمة في الاعتبار.
وهذه العينات من البشر يستوي عندها الانتحار أو الاستمرار في الحياة, إذا حسبناها من منظور تاريخي, فهم بشر يحملون مقومات هدم أنفسهم وهم يتصورون أنهم قادرون علي هدم الناس.
إن صدام حسين ـ في رأيي ـ قاتل لنفسه وقاتل للناس منذ أن فقد بصيرته.
ويري الدكتور إسماعيل منتصر أستاذ الأمراض العصبية بجامعة الأزهر أن نهاية الرئيس العراقي السابق لم تكن متوقعة, فكنت أتوقع أن يكون سلوكه أكثر وعيا وأن يدرك الدرس الأول عندما قام بغزو الكويت, ويصل إلي نوع من الاستنتاج بأن النهاية لن يصنعها بيديه كما حدث عند غزوه للكويت.
وعندما قام الرئيس العراقي السابق بتسليم نفسه دون إطلاق رصاصة واحدة من مسدسه الذي يحمله لأنه ليست لديه عقيدة لكي يحارب من أجلها أو هدف للحرب.
ويوضح قائلا: مهما تعددت الأحكام حول شخصية صدام حسين فإنه بالقطع لديه نوع من المرض النفسي الأولي أو الثانوي نتيجة مرض عضوي في المخ.
أما الدكتور محمد عزت أمين مدرس الطب النفسي بكلية طب قصر العيني فيؤكد أن جنون العظمة نوع من أنواع الأمراض النفسية.
ومن الناحية الإكلينيكية فإن الطب يضعه في خانة جنون العظمة, وهو بشكل عام من الأمراض النفسية.
ويبدأ ظهور هذه الأعراض في حالات اضطرابات الشخصية, وفي هذه الحالات نلاحظ علي الشخصية ميولا إلي السيطرة وفرض الرأي والميول الاستعراضية, وحب الظهور بشكل أكبر من الحقيقة.
وغالبا ما تعتري هذه الشخصية الشكوك في تصرفات وميول الآخرين وولائهم لهذه الشخصية. ويشير الدكتور محمد عزت أمين إلي أن هذا النوع من الاضطرابات النفسية الكامنة في هذه الشخصية يميل إلي التصرفات الحادة والعنيفة التي قد لا تتناسب مع الموقف في كثير من الأحيان.
ويعتقد أن هؤلاء الأشخاص الذين يعانون هذا النوع من الاضطرابات النفسية يكون رد فعلهم في بعض المواقف غير متوقع.
ويشير مدرس الطب النفسي إلي أن هذه الشخصية التي يطلق عليها الطب النفسي الشخصية البارانوية يغلب عليها سوء تفسير الأحداث والمواقف المختلفة, وذلك لتزايد نسبة الشكوك والظنون في مكونات هذه الشخصية وسماتها.
المصدر: الأهرام : 17-12-2003
شهود سنوات الدقي يروون قصة صدام في مصر
أيام اللجوء إلي القاهرة كان يتجنب الحديث في السياسة ويتشاجر بالمقاهي
عبد الناصر قرر ترحيله تخلصا من مشكلاته المتكررة بعد انتحار خادمته
تحقيق: سحر زهران
لا يزال حي الدقي الشهير بوسط القاهرة يحتفظ بذكرياته عن صدام حسين الذي عاش فيه ثلاث سنوات, علي الرغم من أن أربعين عاما مرت علي وجوده هناك عندما جاء للقاهرة هاربا من ملاحقة أجهزة الأمن العراقية, إثر قيامه بمحاولة اغتيال رئيس العراق آنذاك عبدالكريم قاسم, واستغل صدام فترة لجوئه عام1960 حتي عام1973 لإكمال دراساته التي تركها قبل انضمامه للتنظيمات السرية لحزب البعث الذي كان في طور النشأة آنذاك, فالتحق بمدرسة قصر النيل الثانوية التي تقع في قلب ميدان الدقي, ثم التحق بعدها بكلية الحقوق جامعة القاهرة التي لاتبعد كثيرا عن حي الدقي الذي كان ومازال يعج بالدارسين العرب في هذه الجامعة العريقة.
وأكد أناس كثيرون أن شخصية صدام حسين لا تنسي, وأنهم مازالوا يحتفظون بذكرياتهم معه, لأنه كان من أشهر الطلاب العراقيين بسبب مشاغباته الكثيرة ووجوده علي رأس شلة كبيرة من العراقيين يظهر فيها كقائد, فقد كانت شخصيته كما يتذكرون عنيفة جدا, وفي الوقت نفسه يتميز بالكرم والعطف علي الآخرين, فلا يرد من يطلب مساعدته, ودائما ما يظهر قويا وجريئا, لذلك هم لا يصدقون حتي الآن ما بدا عليه من ضعف واستسلام.
وقد كان صدام حسين دائم التردد علي مقهي إنديانا الشهير وسط ميدان الدقي, ويتذكر بعض العاملين بالقهوة أنه كان أحيانا يحب الجلوس بمفرده علي الترابيزة رقم(4) ليتناول قهوته ويقرأ في كتبه الدراسية, وقد نشأت بينه وبين عم حنفي صاحب المقهي علاقة قوية, فقد كان يرحب دائما بصدام عند مجيئه وينصحه بالابتعاد عن المشكلات والسياسة التي كان يتحدث في أمورها مع عم حنفي فقط, وقد ظلت العلاقة وطيدة بينهما حتي بعد عودة صدام إلي العراق, فقد كان يعطف عليه لعلمه بوجود ابنة له مريضة, وكان كثيرا ما يرسل له نقودا وهدايا عن طريق السفارة, ويعالج ابنته المريضة علي نفقته, وكان عم حنفي الذي توفي قبل سنوات يردد دائما أن صدام حسين إنسان شهم وجدع.
ويتذكر العاملون بمقهي إنديانا أنه بعد تولي صدام حسين الحكم في العراق جاء إلي المقهي وتناول قهوته علي ترابيزته المفضلة وسدد ديونه للجرسونات ودفع بقشيش(500 دولار) وترك بعض الهدايا.
ومن عادات صدام حسين اليومية داخل حي الدقي أنه كان يتناول طعامه في مطعم كبابجي الدقي, وكان يعد له السندويتشات الحاج عبدالقادر الخولي الذي يبلغ من العمر80 عاما, ويقول: كنت أعامله كزبون عادي فلم أتوقع أنه رجل عسكري أو أنه سيكون له شأن يوما ما, وكان طلبه لا يخرج عن ساندويتشات الإسكالوب والروزبيف في العيش الفينو, فهو لا يحب الأرز أو الخضراوات, وعندما كان يدخل المقهي يرسل لي الجرسون للإسراع بالطلب, وفي أحيان كثيرة لم يكن يملك ثمن سندويتشاته, فكان يؤجل الدفع لأيام, لكنه كان حريصا علي سداد كل ديونه, وعندما ترقي وتولي منصب رئيس العراق لم أره أبدا.
ويحكي عم محمد شرقاوي أشهر سمسار شقق في الدقي ومن أول المصريين الذين وطد معهم صدام علاقته: كان صدام دائم القلق, يحب تغيير مسكنه كثيرا, وأول مرة رأيته قال لي: أريد أن أسكن في مكان غير مشهور ومن الصعب الوصول إليه, ولم أسأله عن السر علي الرغم من أنني يكنت أراه دائما مع أصدقاء كثيرين في المقهي.
وعندما وجدت له في البداية شقة في إحدي العمارات بجوار الميدان فرح بها وأعطاني السمسرة, وبعد ساعات جاءني مرة أخري طالبا سكنا آخر ووجدته غاضبا فخشيت أن أسأله وأخذته إلي شقة بشارع النيل في الدور الثالث, وكنت أعلم أنها شقة لا يحبها معظم الزبائن, لكنني فوجئت به يشكرني وأعطاني حقي, وهمس في أذني بألا أخطر أحدا بمكان سكنه الجديد.
وظل يقطن في هذه الشقة ما لا يقل عن سبعة أشهر ثم انتقل للمعيشة مع حيدر السامرائي في شارع سليمان جوهر في الدقي, وجاءني مرة أخري لأجد له سكنا جديدا ووجدت له فيلا في المهندسين خلف نادي الصيد أعجبته جدا وكان إيجارها22 جنيها, عاش بها لمدة عام ثم انتقل إلي الإسكندرية ليعيش هناك في شقة مع بعض زملائه إلي أن حدثت مشكلة كبيرة ومشادة مع زملائه انتهت بانتحار الخادمة, وبعدها قال الرئيس جمال عبدالناصر: إن مشكلاته كثيرة, وقام بترحيله, وهذا ما أكده أصدقاؤه العراقيون علي المقهي.
ويضيف عم شرقاوي أن العيب الوحيد في شخصية صدام هو اندفاعه القوي وشغبه الدائم, فعندما تحول مقهي إنديانا إلي مطعم انتقلت جلساتهم إلي مقهي البداري في ميدان الدقي نفسه, فكانوا يبدأون جلساتهم بالضحك وتحية القهوجي والموجودين ثم بعد ذلك وخلال دقائق من وصول صدام وجلوسه يتعاركون ويضربون بعضهم بالكراسي, وعندما يسأل أحد عن السبب كان يتعرض للإهانات, إلا أنه في ذات مرة حاولت التدخل فصدني طارق عزيز ونهرني فوجدت صدام يمنعه ويقول له بأنني رجل طيب لا أستحق ذلك, وفوجئت به في اليوم التالي يصطحب صديقه طارق عزيز ليقدم لي الاعتذار. ويؤكد عم شرقاوي أن بواب العمارة كان من المقربين جدا لصدام حسين, لأن البواب كان لا يخبر أحدا بوجوده, ما عدا أشخاصا معينين, وبعدما رحل صدام حسين عن مصر كان يرسل أموالا إلي البواب, كما أرسل له مبلغا من المال عندما أتي إلي القاهرة عام1989 لحضور القمة العربية, وقد رحل البواب منذ عدة سنوات.
ويجمع السكان القدامي علي أن صدام حسين لم يكن له أصدقاء في الحي سوي اثنين, الأول هو الصيدلي لويس وليم صاحب إحدي الصيدليات الشهيرة بالدقي, فقد كان صدام دائم الجلوس في الصيدلية مع رفاقه, وكان يذهب معه إلي البيت ويجلسان أوقاتا طويلة من الليل, وظلت علاقته قائمة به حتي وقت قريب وسافر الصيدلي كثيرا إلي العراق لزيارة صدام, وحينما وجدنا الدكتور لويس رفض التحدث عن ذكرياته مع صدام.
أما صديقه الثاني ويدعي محمد المصري فلم نعثر له علي أثر في حي الدقي.
ومن الأشخاص الذين تمتعوا بصداقة صدام حسين الحاج سيد الحلاق, الذي يتميز زبائنه بأن معظمهم من العرب الدارسين في مصر, وهو يقول عن صدام: لم يظهر يوما أنه سيكون له شأن كبير, لكنني كنت أشعر دائما أنه رجل عسكري, فقد كان أنيقا يرتدي الزي العسكري دون نياشين وكان متواضعا يحلق عندي مقابل25 قرشا, وحينما يكون مريضا يرسل لي وأذهب لأحلق له في منزله هو وأصدقائه ويدفع لي أجري وأكثر, وكان صدام يحب الجلوس عندي خاصة في الأوقات التي لا يكون صديقه لويس موجودا, وكان يطلب مني الجلوس أمام المحل ومعه أحمد حسن البكر الذي شاركه في الانقلاب البعثي ضد نظام الرئيس عبدالرحمن عارف, وسبقه في رئاسة العراق, وكان دائم الجلوس مع طارق عزيز ويطلب مني أن أذهب إلي منزل طارق عزيز لأحلق له لأنه لم يكن يعرفني, وعرفني علي العديد من أصدقائه العراقيين الذين كنت أحلق لهم في بيوتهم. ....عرفات الخطيب